تونس في ميزان حقوق الإنسان.. انتهاكات متزايدة بحق الحريات وسط صمت دولي

المرسوم 54 يمثل سيفاً على الرقاب

تونس في ميزان حقوق الإنسان.. انتهاكات متزايدة بحق الحريات وسط صمت دولي
احتجاجات ضد قمع المعارضة في تونس - أرشيف

في ظل أجواء سياسية محتقنة، صعّدت السلطات التونسية خلال العام الماضي من قمعها الممنهج لحرية التعبير وسائر أشكال المعارضة، وسط تزايد في استخدام قوانين قمعية لتكميم الأفواه وملاحقة الأصوات المنتقدة، وجاءت هذه التطورات في سياق استعداد البلاد للانتخابات الرئاسية التي جرت في أكتوبر الماضي، وسط تضييق غير مسبوق على الحريات السياسية والمدنية.

وأقدمت السلطات على ملاحقة الصحفيين والنشطاء والنقابيين والمحامين والمدافعين عن حقوق الإنسان، مستندة إلى تهم فضفاضة وغير مسنودة قانونيًا، مثل "نشر أخبار كاذبة" و"التآمر على أمن الدولة"، إلى جانب توظيف المرسوم عدد 54 الذي ينظّم الجرائم المتعلقة بأنظمة المعلومات والاتصال، والذي أصبح أداة قمع رئيسية منذ صدوره.

وأُعيد انتخاب الرئيس قيس سعيد لولاية ثانية بنسبة 90.69 بالمئة من الأصوات، وسط نسبة مشاركة لم تتجاوز 28 بالمئة، لكن اللافت كان غياب مرشحي المعارضة الحقيقيين، الذين جرى استبعاد معظمهم عبر إجراءات بيروقراطية، أو مضايقات قضائية، أو احتجاز تعسفي.

ورغم صدور قرار من المحكمة الإدارية بإعادة ثلاثة مرشحين معارضين إلى السباق الانتخابي، رفضت الهيئة العليا المستقلة للانتخابات تنفيذ الحكم.

وفي يوليو، ألقت السلطات القبض على العجمي الوريمي، الأمين العام لحركة النهضة، إلى جانب اثنين من أعضاء الحزب، واحتجزوا تعسفيًا دون توجيه تهم واضحة، كما اعتُقلت سهام بن سدرين، الرئيسة السابقة لهيئة الحقيقة والكرامة، في أغسطس بتهم يُعتقد أنها ذات دوافع انتقامية.

وشملت حملة القمع أيضًا نور الدين البحيري، وزير العدل السابق، الذي حُكم عليه بالسجن 10 سنوات بسبب منشور على وسائل التواصل الاجتماعي، نُسب إليه رغم نفيه. كما استهدفت السلطات السياسية المعارضة عبير موسي، التي تقضي عقوبة بالسجن بتهم تتعلق بحرية التعبير.

تضييق مستمر 

ولم يسلم الصحفيون والفنانون والمحامون من دائرة القمع. فقد حُكم على الفنان رشاد طمبورة بالسجن عامين بسبب عمل غرافيتي يُندد بتصريحات عنصرية منسوبة للرئيس، كما حُكم على المحامية والإعلامية سنية الدهماني بالسجن في قضيتين منفصلتين، على خلفية تعليقاتها التلفزيونية.

وشملت الاعتقالات أيضًا الصحفيين: مراد الزغيدي، وبرهان بسيّس، اللذين حُكم عليهما بالسجن لمجرد التعبير عن آراء سياسية، إذ تمت معاقبة المحامي عبد العزيز الصيد على خلفية اتهامه للسلطات بالتلاعب القضائي، في مؤشر على محاصرة أي انتقاد للسلطة التنفيذية.

وواصلت الهيئة العليا المستقلة للانتخابات ملاحقة المؤسسات الإعلامية، حيث منعت توزيع عدد سبتمبر من مجلة "جون أفريك" الذي تضمن مقالًا ينتقد الرئيس، وقدّمت شكاوى جنائية ضد إعلاميين ومعارضين بدعوى "ترويج أخبار كاذبة".

وفي سياق متصل، اتهم الرئيس سعيد مرارًا منظمات المجتمع المدني بـ"الفساد والتدخل الأجنبي"، في محاولة لتقويض عملها، وبلغت هذه الحملة ذروتها في مايو الجاري، حين باشرت السلطات التحقيق مع 14 منظمة تعمل في مجال دعم اللاجئين والمهاجرين، واتهمت أعضاءها بتهم غامضة مثل "تقديم المساعدة لمهاجرين غير شرعيين".

ورفضت الهيئة العليا المستقلة للانتخابات منح اعتماد لمنظمات رقابية محلية مثل "أنا يقظ" و"مراقبون"، بدعوى تلقيها تمويلات مشبوهة.

وواجه نشطاء نقابيون وبيئيون مضايقات واستدعاءات من الشرطة، على خلفية تنظيمهم مظاهرات سلمية للمطالبة بالحقوق المعيشية. وواصلت السلطات توظيف تهم قانونية مبهمة مثل "العرقلة"، لقمع حرية التجمع السلمي، خاصة في ما يتعلق بتنظيم الإضرابات والمظاهرات النقابية.

وبحسب جمعية القضاة التونسيين، أقدمت وزارة العدل على نقل وإقالة أكثر من 100 قاضٍ ووكيل نيابة دون احترام الإجراءات الواجبة، ما يُعد انتهاكًا صارخًا لاستقلالية القضاء. كما تجاهلت الحكومة تنفيذ أحكام قضائية تُلزمها بإعادة القضاة المعزولين إلى مناصبهم.

انتهاك ضد اللاجئين والأقليات

وتفاقمت الانتهاكات ضد المهاجرين واللاجئين، خاصة من ذوي البشرة السوداء، الذين تعرضوا للطرد الجماعي إلى الحدود مع الجزائر وليبيا، في ظروف تهدد حياتهم، وبين يونيو 2023 ومايو 2024، طُرد أكثر من 10,000 شخص، بينهم أطفال ونساء حوامل، في انتهاك واضح لمبدأ عدم الإعادة القسرية.

وأكدت تقارير تعرض هؤلاء للتعذيب، والاعتقال التعسفي، والضرب، والتفتيش الجسدي المهين، كما تعرضت منظمات تقدم الدعم للمهاجرين لملاحقات قضائية عطلت تقديم الخدمات الإنسانية.

وصعدت السلطات من ملاحقة أفراد مجتمع الميم، حيث شُرع في أكثر من 40 محاكمة بسبب الميول الجنسية، إلى جانب تعرّض بعضهم لفحوص شرجية قسرية.

واعتُقل 27 شخصًا بين أواخر سبتمبر وبداية أكتوبر في عدة مدن، كما طالت المضايقات نشطاء وموظفين في منظمات تُعنى بحقوقهم.

ولم تحظَ النساء بتمثيل سياسي يُذكر، حيث فازت 10 نساء فقط بمقاعد في الغرفة العليا للبرلمان، كما وثّقت منظمات نسوية مقتل 15 امرأة في جرائم عنف بين يناير وأغسطس، في ظل استمرار ضعف تطبيق القانون رقم 58 المتعلق بالعنف ضد النساء، فيما ارتفعت حالات العنف الإلكتروني، حيث أفادت 19% من النساء بتعرضهن للإساءة عبر الإنترنت.

ووفق المعهد الوطني للإحصاء، ارتفعت أسعار المواد الغذائية بنسبة 9.2 بالمئة خلال الأشهر التسعة الأولى من العام، وسط نقص مستمر في السلع الأساسية، دون توضيح رسمي للأسباب أو الإجراءات المتخذة، ما زاد من معاناة المواطنين.

تحديات المسار الديمقراطي

وبحسب تقديرات الخبراء والمتابعين، فإن المشهد الحقوقي والسياسي في تونس يشهد تراجعًا مقلقًا، وسط تصعيد غير مسبوق في استهداف حرية التعبير وتضييق الخناق على المجتمع المدني والمعارضة السياسية، حيث استخدمت السلطة القوانين القمعية والاتهامات المُلفّقة كأدوات لإسكات الأصوات المستقلة، سواء كانت تنتمي إلى أحزاب معارضة، أو منظمات حقوقية، أو حتى أفراد يمارسون حقهم الطبيعي في النقد والتعبير السلمي.

وطالت الانتهاكات قطاعات واسعة من المجتمع، من الصحفيين والمحامين إلى اللاجئين والمهاجرين ومجتمع الميم، وهو ما يعكس توجّهًا ممنهجًا لقمع التعددية وتكريس الحكم الفردي، فضلاً عن تطبيق هذه السياسات والممارسات دون مساءلة، في ظل غياب آليات فعالة لضمان العدالة واحترام الحقوق الأساسية.

ويقول خبراء تونسيين أن هذه العوامل تنذر بانهيار مقومات دولة القانون وفتح الباب أمام مزيد من التوترات الاجتماعية والانقسامات، الأمر الذي يشير إلى حاجة مُلحّة لتدخل عاجل من المجتمع الدولي، وإلى تحركات وطنية واسعة النطاق لاستعادة المسار الديمقراطي، وضمان احترام الكرامة الإنسانية لجميع المواطنين والمقيمين في تونس، بصرف النظر عن خلفياتهم أو آرائهم أو انتماءاتهم.

مخاوف وترهيب

وتعذر على "جسور بوست" التواصل مع الخبراء والمراقبين داخل تونس، بسبب المخاوف من تقييد الحريات، وسط أجواء من التوجس تسود الأوساط الإعلامية والحقوقية، إذ يعد كثير من الناشطين أنهم مهددون بالمرسوم رقم 54 والذي يُستخدم أداة لترهيب الصحفيين والمعارضين، ووسيلة لقمع حرية التعبير بدلاً عن حماية الفضاء الرقمي من الانتهاكات.

وفي سبتمبر 2022، وقع الرئيس التونسي قيس سعيد على المرسوم بقانون رقم 54، الذي يهدف إلى مكافحة المعلومات والشائعات الكاذبة على الإنترنت. وتنص المادة 24 من المرسوم على السجن لمدة تصل إلى خمس سنوات وغرامة تصل إلى 50 ألف دينار لكل من ينشر مثل هذه المعلومات. ويتضاعف هذا إذا صدرت الأقوال المسيئة عن أحد موظفي الدولة.

وقد أثار المرسوم موجة من الانتقادات من قبل منظمات المجتمع المدني المحلية والدولية التي أعربت عن قلقها من الصياغة الفضفاضة لنصوصه، والتي تتيح للسلطات تفسيرها بشكل واسع قد يؤدي إلى الملاحقة الجنائية لأي صوت ناقد أو مخالف للرواية الرسمية. ويؤكد مراقبون أن هذا التوجه التشريعي يعمّق مناخ الخوف والرقابة الذاتية، ويهدد بانكماش المساحات المتاحة للنقاش العام في البلاد.

بدوره، قال ناشط تونسي متخصص في قضايا الهجرة واللاجئين، فضل عدم ذكر اسمه خشية الملاحقات الأمنية، إن بيئة العمل السياسية والحقوقية في بلاده أصبحت غير آمنة أو صحية، نظراً لملاحقة عشرات المعارضين والنشطاء بالإدانات والاتهامات، ما تسبب في حالة ردة في المناخ السياسي العام وأوضاع حقوق الإنسان والحريات.

وأوضح، قائلاً: "كنت في البداية من المتفائلين بقدوم الرئيس قيس سعيد، قبل أن تنقلب الأحوال رأساً على عقب بسبب التضييقات الأمنية، وتصفية المعارضين، وإقرار القوانين المقيدة للحريات، وملاحقة المعارضين، ومراقبة الحسابات الشخصية على منصات السوشيال ميديا".

وأضاف: "نواجه تهديدات بشأن عملنا في مجال الدفاع عن حقوق الإنسان، ولدينا زملاء واجهوا اتهامات أوصلتهم إلى غياهب السجون، والوضع بات صعبًا للغاية، حيث أصبحت المساحة المتاحة للعمل المدني والحقوقي تضيق يومًا بعد يوم، وسط مناخ عام يتسم بالتضييق والملاحقة، الأمر الذي يفرض علينا إما الصمت أو المجازفة بالحرية، وهي معادلة قاسية يدفع ثمنها المدافعون عن الحقوق والكرامة الإنسانية".

هجوم أوسع نطاقاً

من جانبها، أكدت خولة بوكريم، مديرة موقع "تونس ميديا" والمدافعة عن حقوق الإنسان، أن تونس تشهد تضييقًا متزايدًا على المعارضين والنشطاء الحقوقيين والسياسيين والصحفيين. ووصفت هذا التضييق بأنه يتجلى من خلال التسريع في الإحالات إلى القضاء، والمحاكمات غير العادلة، وحملات التشهير التي تقودها صفحات موالية للرئيس قيس سعيد.

وعدت خولة، في تصريح لـ"جسور بوست"، أن من بين أكثر المشاهد الصادمة في تونس، توقيف القاضي السابق أحمد صواب، الذي خدم في سلك القضاء لأكثر من ثلاثين عامًا، ويعمل اليوم محاميًا يدافع عن المعارضين والسياسيين، وذلك فقط لأنه صرح بأن السلطة تمارس ضغوطًا على القضاء التونسي.

وأضافت: "المرسوم 54 تحول إلى سيف مسلط على رقاب الصحفيين والمعارضين والنشطاء، إذ يُستخدم لفرض عقوبات بالسجن على كل من يجرؤ على التعبير عن رأيه بحرية، كما تُمعن السلطة في التضييق على سجناء الرأي وأسرهم، من خلال نقل بعضهم من سجون قريبة إلى أخرى نائية على أطراف العاصمة، ما يصعّب الزيارات ويزيد من أعباء المحامين".

واختتمت خولة بوكريم حديثها بالقول: "لن يحدث أي تغيير حقيقي في تونس ما لم يُلغِ الرئيس قيس سعيد المرسوم 54، ويُطلق حواراً وطنياً شاملاً، ويتوقف عن الخطاب الشعبوي الذي يصف فيه المعارضين بالعملاء والمتآمرين والمأجورين من الخارج".



موضوعات ذات صلة


ابق على اتصال

احصل على النشرة الإخبارية